الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****
1 - الإجازة في اللّغة الإنفاذ، يقال: أجاز الشّيء إذا أنفذه. ولا يخرج استعمال الفقهاء للإجازة عن هذا المعنى اللّغويّ. هذا وقد يطلق الفقهاء " الإجازة " بمعنى الإعطاء، كما يطلقونه على الإذن بالإفتاء أو التّدريس. ويطلق المحدّثون وغيرهم " الإجازة " بمعنى الإذن بالرّواية، سواء أكانت رواية حديث أم رواية كتاب. وتفصيل ذلك يأتي في آخر البحث، والإجازة بمعنى الإنفاذ لا تكون إلاّ لاحقةً للتّصرّف، بخلاف الإذن فلا يكون إلاّ سابقاً عليه. وعلى هذا فنقسّم البحث على هذه الأنواع الأربعة: أوّلاً: الإجازة بمعنى الإنفاذ أركانها: 2 - كلّ إجازة لا بدّ من أن تتوفّر فيها الأمور التّالية: أ - المجاز تصرّفه: وهو من تولّى التّصرّف بلا ولاية كالفضوليّ. ب - المجيز: وهو من يملك التّصرّف سواء أكان أصيلاً أم وكيلاً أم وليّاً أم وصيّاً أم قيّماً أم ناظر وقف. ج - المجاز: وهو التّصرّف. د - الصّيغة: صيغة الإجازة أو ما يقوم مقامها. وقد اصطلح جمهور الفقهاء على أنّ هذه الأمور كلّها أركان والحنفيّة يقصرون إطلاق لفظ الرّكن على الصّيغة أو ما يقوم مقامها. أ - (المجاز تصرّفه): 3 - يشترط في المجاز تصرّفه ما يلي: 1 - أن يكون ممّن ينعقد به التّصرّف كالبالغ العاقل والصّغير المميّز في بعض تصرّفاته. أمّا إذا كان المباشر غير أهل لعقد التّصرّف أصلاً كالمجنون والصّغير غير المميّز فإنّ التّصرّف يقع باطلاً غير قابل للإجازة. بقاء المجاز تصرّفه حيّاً لحين الإجازة: 4 - لكي تكون الإجازة صحيحةً ومعتبرةً عند الحنفيّة فلا بدّ من صدورها حال حياة المباشر، إن كانت طبيعة التّصرّف ممّا ترجع حقوقه إلى المباشر فيما لو حجبت عنه الإجازة، كالشّراء والاستئجار أمّا التّصرّفات الّتي يعتبر فيها المباشر سفيراً ومعبّراً، ولا تعود حقوق التّصرّف إليه بحال من الأحوال، كالنّكاح فلا تشترط فيه حياة المباشر وقت الإجازة، كما لو زوّج فضوليّ رجلاً بامرأة، ثمّ مات الفضوليّ، ثمّ أجاز الرّجل اعتبرت الإجازة صحيحةً، لأنّ الوكيل في هذا العقد ما هو إلاّ سفير ومعبّر، ولا يعود إليه شيء من حقوق هذا العقد حين إخلاله بالشّروط الّتي اشترطها عليه الموكّل. هذا صريح مذهب الحنفيّة وهو المفهوم من بعض الفروع في مذهب الشّافعيّة، فقد قالوا: لو باع مال مورّثه على ظنّ أنّه حيّ وأنّه فضوليّ فبان ميّتاً حينئذ وأنّه ملك العاقد فقولان، وقيل وجهان مشهوران، أصحّهما: أنّ العقد صحيح لصدوره من مالك، والثّاني: البطلان لأنّه في معنى المعلّق بموته، ولأنّه كالغائب. والظّاهر أنّ الوجه الأوّل هنا مبنيّ على القول بجواز تصرّف الفضوليّ، فإنّ تصرّفه كان على ظنّ أنّه فضوليّ، وإجازته بعد تحقّق وفاة مورّثه على أنّه مالك فله اعتباران: كونه فضوليّاً وكونه مالكاً وهو حيّ في كلتا الحالتين. وأمّا على القول بالبطلان، وهو المعتمد عندهم، فلا تنافي. هذا ولم نعثر على هذا الشّرط عند المالكيّة والحنابلة. ب - (المجيز): 5 - من له الإجازة (المجيز) إمّا أن يكون واحداً، أو أكثر، فإن كان واحداً فظاهر، وإن كان أكثر فلا بدّ من اتّفاق جميع من لهم الإجازة عليها حتّى تلحق التّصرّف إذا كان لكلّ واحد منهم حقّ الإجازة كاملاً فإن اختلفوا فأجازه البعض، وردّه البعض قدّم الرّدّ على الإجازة، كما لو جعل خيار الشّرط إلى شخصين فأجاز البيع أحدهما وامتنع عن الإجازة الآخر، لم تلحق الإجازة التّصرّف. أمّا إن كانت الإجازة قابلةً للتّجزئة كما إذا تصرّف فضوليّ في مال مشترك، فالإجازة تنفذ في حقّ المجيز دون شركائه. 6 - ويشترط في المجيز لكي تصحّ إجازته أن يكون أهلاً لمباشرة التّصرّف وقت الإجازة فإن كان التّصرّف هبةً وجب أن تتوفّر فيه أهليّة التّبرّع، وإن كان بيعاً وجب أن تتوفّر فيه أهليّة التّعاقد وهكذا لأنّ الإجازة لها حكم الإنشاء، فيجب فيها من الشّروط ما يجب في الإنشاء. 7 - ويشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة في قول عندهم والشّافعيّة في التّصرّفات الّتي تتوقّف على الإجازة كخيار الشّرط لأجنبيّ عن العقد أن يكون المجيز موجوداً حال وقوع التّصرّف، لأنّ كلّ تصرّف يقع ولا مجيز له حين وقوعه يقع باطلاً، والباطل لا تلحقه الإجازة. فإذا باع الصّغير المميّز ثمّ بلغ قبل إجازة الوليّ تصرّفه، فأجاز تصرّفه بنفسه جاز، لأنّ له وليّاً يجيزه حال العقد، وإذا زوّج فضوليّ إنساناً ثمّ وكّل هذا الشّخص الفضوليّ في تزويجه قبل أن يجيز التّصرّف، فأجاز الفضوليّ بعد الوكالة تصرّفه السّابق للوكالة جاز هذا عند كلّ من الحنفيّة والمالكيّة. بخلاف ما إذا طلّق وهو صغير، ثمّ بلغ فأجاز طلاقه بنفسه، لم يجز لأنّ طلاق الصّغير ليس له مجيز وقت وقوعه، إذ ليس للوليّ أن يطلّق زوجة الصّغير، ولا أن يتصرّف تصرّفاً مضرّاً ضرراً محضاً بالصّغير - مميّزاً أو غير مميّز - هذا عند الجمهور (الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وقول لأحمد) والمعتمد عند الحنابلة وقوع طلاق الصّبيّ المميّز الّذي يعقل الطّلاق وما يترتّب عليه. 8 - ويشترط الشّافعيّة أن يكون من تولّى الإجازة مالكاً للتّصرّف عند العقد، فلو باع الفضوليّ مال الطّفل، فبلغ الطّفل، فأجاز ذلك البيع، لم ينفذ لأنّ الطّفل لم يكن يملك البيع عند العقد. وهذا بناءً على القول عندهم بجواز تصرّفات الفضوليّ. 9 - كما يشترط في المجيز أن يكون عالماً ببقاء محلّ التّصرّف. أمّا علمه بالتّصرّف الّذي أجازه فظاهر، وأمّا علمه ببقاء محلّ التّصرّف فقد قال في الهداية: ولو أجاز المالك في حياته وهو لا يعلم حال المبيع جاز البيع في قول أبي يوسف أوّلاً، وهو قول محمّد لأنّ الأصل بقاؤه ثمّ رجع أبو يوسف فقال: لا يصحّ حتّى يعلم قيامه عند الإجازة، لأنّ الشّكّ وقع في شرط الإجازة. فلا يثبت مع الشّكّ وهو ما ذهب إليه المالكيّة أيضاً. ولم نقف على نصّ في هذا عند الشّافعيّة والحنابلة لأنّ المعتمد عندهم عدم جواز تصرّفات الفضوليّ ولهذا لم يتوسّعوا في التّفريع. ج - التّصرّف المجاز (محلّ الإجازة) محلّ الإجازة إمّا أن يكون قولاً أو فعلاً إجازة الأقوال: 10 - الإجازة تلحق التّصرّفات القوليّة، وعندئذ يشترط في تلك التّصرّفات:
أوّلاً: أن يكون قد وقع صحيحاً، فالعقد غير الصّحيح لا تلحقه الإجازة كبيع الميتة، فبيع الميتة غير منعقد أصلاً، فهو غير موجود إلاّ من حيث الصّورة فحسب، والإجازة لا تلحق المعدوم بالبداهة. ويبطل العقد الموقوف وغير اللاّزم بردّ من له الإجازة، فإذا ردّه فقد بطل، ولا تلحقه الإجازة بعد ذلك.
ثانياً: أن يكون التّصرّف صحيحاً غير نافذ - أي موقوفاً - كهبة المريض مرض الموت فيما زاد على الثّلث وكتصرّف الفضوليّ عند من يرى جوازه، وكالعقود غير اللاّزمة كالّتي تنعقد مع الخيار.
ثالثاً: أن يكون المعقود عليه قائماً وقت الإجازة، فإن فات المعقود عليه فإنّ العقد لا تلحقه الإجازة، لأنّ الإجازة تصرّف في العقد، فلا بدّ من قيام العقد بقيام العاقدين والمعقود عليه. إجازة العقود الواردة على محلّ واحد:
11 - إذا وردت الإجازة على أكثر من عقد واحد على محلّ واحد، لحقت أحقّ هذه العقود بالإمضاء. وقد صنّف الحنفيّة العقود والتّصرّفات بحسب أحقّيّتها كما يلي: الكتابة والتّدبير والعتق، ثمّ البيع، ثمّ النّكاح، ثمّ الهبة، ثمّ الإجارة، ثمّ الرّهن. فإذا باع فضوليّ أمة رجل، وزوّجها فضوليّ آخر، أو آجرها أو رهنها، فأجاز المالك تصرّف الفضوليّين معاً، جاز البيع وبطل غيره، لأنّ البيع أحقّ من بقيّة التّصرّفات، فلحقت به الإجازة دون غيره ولم نجد هذا عند غيرهم. إجازة الأفعال: الأفعال إمّا أن تكون أفعال إيجاد أو إتلاف.
12 - وفي أفعال الإيجاد اتّجاهان: الأوّل: أنّ الإجازة لا تلحقها، وهو ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة. الثّاني: أنّ الإجازة تلحقها، وهو ما ذهب إليه الإمام محمّد بن الحسن وهو الرّاجح عند الحنفيّة. وبناءً على ذلك فإنّ الغاصب إذا أعطى المغصوب لأجنبيّ بأيّ تصرّف فأجاز المالك ذلك، فقد ذهب أبو حنيفة إلى عدم براءة الغاصب وأنّه لا يزال ضامناً إذ الأصل عنده أنّ الإجازة لا تلحق الأفعال. والمفهوم من بعض فروع المالكيّة والشّافعيّة ورواية عن أحمد أنّهم يذهبون مذهب أبي حنيفة. وعلّل المالكيّة ذلك بأنّ الرّضا بتصرّف الغاصب لا يجعل يده يد أمانة. وعلّل الشّافعيّ والحنابلة لهذه الرّواية بأنّ تصرّفات الغاصب في العين المغصوبة حرام، ولا يملك أحد إجازة تصرّف حرام. وذهب الإمام محمّد بن الحسن إلى أنّ إجازة المالك لتصرّف الغاصب صحيحة وتبرّئ ذمّته وتسقط عنه الضّمان والقاعدة عنده أنّ الإجازة تلحق الأفعال. وهو الرّواية الأخرى عند الحنابلة، واختلف علماؤهم في تخريج هذه الرّواية عن أحمد.
13 - واتّفقت كلمة الحنفيّة على أنّ الإجازة لا تلحق أفعال الإتلاف، فليس للوليّ أن يهب من مال الصّغير، لأنّ الهبة إتلاف، فإن فعل ذلك كان ضامناً، فإن بلغ الصّبيّ وأجاز هبته، لم تجز، لأنّ الإجازة لا تلحق أفعال الإتلاف. وهذا هو ما يفهم من كلام المالكيّة والشّافعيّة. وأمّا الحنابلة فقد فرّقوا بين ما إذا كان الوليّ أباً أو غير أب فإن كان أباً فلا يعتبر متعدّياً لأنّ له حقّ تملّك مال ولده، لحديث: «أنت ومالك لأبيك» وإن كان الوليّ غير أب فهم مع الجمهور. أمّا دليل عدم نفاذ الإجازة فلأنّ تصرّفات الوليّ منوطة بمصلحته والتّبرّعات إتلاف فتقع باطلةً فلا تلحقها الإجازة.
14 - وقد وقع خلاف في اللّقطة إذا تصدّق بها الملتقط فالمالكيّة والحنابلة قالوا: إذا عرّفها سنةً ولم يأت مالكها تملّكها الملتقط وعلى هذا فلو تصدّق بها بعد المدّة المذكورة فلا ضمان عليه لأنّه تصدّق بخالص ماله. ومفهوم كلامهم أنّه لو تصدّق بها قبل هذه المدّة أو لم يعرّفها يكون ضامناً إن لم يجز المالك التّصدّق. وسندهم في ذلك حديث زيد بن خالد أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال في شأن اللّقطة: «فإن لم تعرف فاستنفقها» وفي لفظ: «وإلاّ فهي كسبيل مالك»، وفي لفظ: «ثمّ كلها»، وفي لفظ: «فانتفع بها». أمّا الحنفيّة فقالوا: إذا تصدّق الملتقط باللّقطة، ثمّ جاء صاحبها فأجاز صدقة الملتقط طلباً لثواب اللّه تعالى، جاز بالاتّفاق. قال عمر بن الخطّاب لمن أتاه مستفسراً عمّا يتصرّف به في اللّقطة الّتي في يده: ألا أخبرك بخير سبيلها ؟ تصدّق بها، فإن جاء صاحبها فاختار المال غرمت له وكان الأجر لك، وإن اختار الأجر كان له، ولك ما نويت ومفهوم مذهب الشّافعيّة أنّ الملتقط إذا تصرّف أيّ تصرّف فيها يكون متعدّياً ويعتبر ضامناً. وتفصيل ذلك في مصطلح «لقطة». صيغة الإجازة: من استقراء كلام الفقهاء نجد أنّ الإجازة تتحقّق بطرائق متعدّدة.
وهي خمسة في الجملة: الطّريقة الأولى: القول 15 - الأصل في الإجازة أن تكون بالقول المعبّر عنها بنحو قول المجيز: أجزت، وأنفذت، وأمضيت، ورضيت، ونحو ذلك. وإذا وقعت الإجازة بلفظ يمكن أن يعبّر به عنها كما يمكن أن يعبّر به عن غيرها، فالاحتكام في ذلك إلى قرائن الأحوال. فإن انعدمت قرائن الأحوال حمل الكلام على حقيقته. وتقوم الكتابة أو الإشارة المفهمة مقام القول عند العجز على تفصيل موضعه الصّيغة في العقد.
الطّريقة الثّانية: الفعل 16 - فكلّ ما يصحّ أن يكون قبولاً من الأفعال في العقود، يصحّ أن يكون إجازةً.
الطّريقة الثّالثة 17 - مضيّ المدّة في التّصرّفات الموقوتة: كمضيّ مدّة الخيار في خيار الشّرط (ر: خيار الشّرط).
الطّريقة الرّابعة 18 - القرائن القويّة: كتبسّم البكر البالغة، وضحكها ضحك سرور وابتهاج، وسكوتها وقبضها مهرها، عند إعلام وليّها إيّاها أنّه زوّجها من فلان، فإنّها قرينة قويّة على إجازتها، بخلاف بكائها بصوت مرتفع وولولتها، فهي قرينة على الرّفض. ومن القرائن القويّة السّكوت في موطن الحاجة إلى الإبطال، كسكوت صاحب الحاجة عند رؤية حاجته يبيعها صغيره المميّز في السّوق وغيرها.
الطّريقة الخامسة 19 - زوال حالة أوجبت عدم نفاذ التّصرّف، كما هو الحال في تصرّفات الرّجل المرتدّ عن الإسلام من معاوضات ماليّة كالبيع والإجارة، أو تبرّعات كالهبة والوصيّة والوقف، فإنّ الإمام أبا حنيفة يعتبر سائر عقود المرتدّ وتصرّفاته الماليّة موقوفةً غير نافذة، فإن زالت حالة الرّدّة بعودته للإسلام نفذت تلك التّصرّفات الموقوفة، وإن مات، أو قتل، أو التحق بدار الحرب وقضى القاضي باعتباره ملتحقاً بها بطلت تلك العقود والتّصرّفات.
20 - وهذه الطّرق الخمسة هي صريح مذهب الحنفيّة والمفهوم من مذهب المالكيّة عند كلامهم عن صيغة عقد البيع. أمّا الشّافعيّة فالأصل عندهم في التّصرّفات القوليّة العبارة. وهذا هو المعتمد في المذهب الجديد. وفي المذهب القديم جواز الاعتماد على المعاطاة وما في معناها، وهو اختيار النّوويّ وجماعة، سواء أكان في النّفيس أم الخسيس واختار بعضهم جواز ذلك في الخسيس فقط. وعليه فتكون الإجازة عندهم على المعتمد بالعبارة دون غيرها. وأمّا الحنابلة فالمأخوذ من فروعهم جواز ذلك في الجملة. وللفقهاء في تصرّفات المرتدّ وكونها موقوفةً أو نافذةً تفصيل حاصله أنّها موقوفة عند أبي حنيفة ومالك والحنابلة ورأي عند الشّافعيّة فإن عاد إلى الإسلام نفذت تصرّفاته بإجازة الشّارع. والصّاحبان من الحنفيّة والشّافعيّة في رأي عندهم أنّ تصرّفاته نافذة. ومبنى هذا الخلاف أنّ من قال بنفاذ تصرّفاته قال: إنّه أهل للتّصرّف وقد تصرّف في ملكه ولم يوجد سبب مزيل للملك وأنّ كلّ ما يستحقّه هو القتل. أمّا الوجه الآخر فإنّهم يرون أنّه بالرّدّة صار مهدر الدّم وماله تبع له، ويتريّث حتّى يستبين أمره.
21 - الإجازة يظهر أثرها من حين إنشاء التّصرّف. ولذا اشتهر من أقوال الفقهاء الإجازة اللاّحقة كالإذن السّابق. ويبنى على ذلك كثير من التّطبيقات العمليّة عندهم نذكر منها: 1 - أنّ المجيز يطالب المباشر بالثّمن بعد الإجازة إن كان التّصرّف بيعاً، ولا يطالب المشتري لأنّ المباشر - وهو الفضوليّ - قد صار بالإجازة وكيلاً. 2 - إذا باع الفضوليّ ملك غيره ثمّ أجاز المالك البيع يثبت البيع والحطّ سواء علم المالك الحطّ أو لم يعلم إلاّ أنّه بالحطّ بعد الإجازة يثبت له الخيار. 3 - إذا تعدّدت التّصرّفات وأجاز المالك أحدها أجاز العقد الّذي أجازه خاصّةً، فلو باع الغاصب العين المغصوبة ثمّ باعها المشتري أو أجّرها أو رهنها وتداولتها الأيدي فأجاز مالكها أحد هذه العقود جاز العقد الّذي أجازه خاصّةً لتوقّف كلّها على الإجازة فإذا أجاز عقداً منها جاز ذلك خاصّةً ولم نعثر لغير الحنفيّة على ما يتعلّق بهذا.
22 - يحقّ لمن له الإجازة أن يردّ التّصرّف المتوقّف عليها، وإذا ردّه فليس له أن يجيزه بعد ذلك لأنّه بالرّدّ أصبح التّصرّف باطلاً. الرّجوع عن الإجازة:
23 - إذا أجاز من له الإجازة التّصرّف، فليس له أن يرجع عن الإجازة بعد ذلك، فمن سمع أنّ فضوليّاً باع ملكه فأجاز ولم يعلم مقدار الثّمن، فلمّا علم ردّ البيع، فالبيع قد لزم، ولا عبرة لردّه لصيرورة البائع المباشر للبيع - وهو الفضوليّ هنا - كالوكيل.
ثانياً: الإجازة بمعنى الإعطاء 24 - الإجازة بمعنى الإعطاء. وهي بمعنى العطيّة من حاكم أو ذي شأن كمكافأة على عمل وبيان ذلك في مصطلح هبة.
ثالثاً: الإجازة بمعنى الإذن بالإفتاء أو التّدريس 25 - أمّا الإجازة بمعنى الإفتاء أو التّدريس فلا يحلّ إجازة أحد للإفتاء أو تدريس العلوم الدّينيّة إلاّ أن يكون عالماً بالكتاب والسّنّة والآثار ووجوه الفقه واجتهاد الرّأي عدلاً موثوقاً به.
رابعاً: الإجازة بمعنى الإذن في الرّواية 26 - اختلف العلماء في حكم رواية الحديث بالإجازة والعمل به فذهب جماعة إلى المنع وهو إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ، وحكي ذلك عن أبي طاهر الدّبّاس من أئمّة الحنفيّة ولكنّ الّذي استقرّ عليه العمل وقال به جماهير أهل العلم من أهل الحديث وغيرهم القول بتجويز الإجازة وإباحة الرّواية بها، ووجوب العمل بالمرويّ بها.
27 - وتستحسن الإجازة برواية الحديث إذا كان المجيز عالماً بما يجيز، والمجاز له من أهل العلم، لأنّها توسّع وترخيص يتأهّل له أهل العلم لمسيس حاجتهم إليها، وبالغ بعضهم في ذلك فجعله شرطاً فيها، وقد حكى ذلك أبو العبّاس الوليد بن بكر المالكيّ عن الإمام مالك رحمه الله.
28 - وكما جرت العادة برواية الحديث بالإجازة، جرت كذلك برواية الكتب وتدريسها بها وهي على أنواع: النّوع الأوّل: أن يجيز إنساناً معيّناً في رواية كتاب معيّن، كقوله: «أجزت لك رواية كتابي الفلانيّ». النّوع الثّاني: أن يجيز لإنسان معيّن رواية شيء غير معيّن، كقوله: «أجزت لك رواية جميع مسموعاتي». وجمهور الفقهاء والمحدّثين على تجويز الرّواية بهذين النّوعين وعلى وجوب العمل بما روي بهما بشرطه مع العلم أنّ الخلاف في جواز العمل بالنّوع الثّاني أكثر بين العلماء. النّوع الثّالث: إجازة غير معيّن رواية شيء معيّن كقوله: «أجزت للمسلمين رواية كتابي هذا " وهذا النّوع مستحدث فإن كان مقيّداً بوصف حاضر فهو إلى الجواز أقرب ويقول ابن الصّلاح: «لم نر ولم نسمع عن أحد ممّن يقتدى به أنّه استعمل هذه الإجازة». النّوع الرّابع: الإجازة لغير معيّن برواية غير معيّن، كأن يقول: أجزت لكلّ من اطّلع على أيّ مؤلّف من مؤلّفاتي روايته وهذا النّوع يراه البعض فاسداً واستظهر عدم الصّحّة وبذلك أفتى القاضي أبو الطّيّب الطّبريّ وحكى الجواز عن بعض الحنابلة والمالكيّة. وهناك أنواع أخرى غير هذه ذهب المحقّقون إلى عدم جواز العمل بها.
1 - الإجبار لغةً: القهر والإكراه. يقال: أجبرته على كذا حملته عليه قهراً، وغلبته فهو مجبر. وفي لغة بني تميم وكثير من أهل الحجاز: جبرته جبراً وجبوراً قال الأزهريّ: جبرته وأجبرته لغتان جيّدتان. وقال الفرّاء سمعت العرب تقول: جبرته على الأمر وأجبرته. ولم نقف للفقهاء على تعريف خاصّ للإجبار. والّذي يستفاد من الفروع الفقهيّة أنّ استعمالهم هذا اللّفظ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ السّابق فمن تثبت له ولاية الإجبار على الزّواج يملك الاستبداد بتزويج من له عليه الولاية، ومن تثبت له الشّفعة يتملّك المشفوع فيه جبراً عن المشتري. وقالوا: إنّ للقاضي أن يجبر المدين المماطل على سداد ما عليه من دين إلى غير ذلك من الصّور المنثورة في مختلف أبواب الفقه.
2 - هناك ألفاظ استعملها الفقهاء في المعاني ذات الصّلة بلفظ إجبار وذلك كالإكراه والتّسخير والضّغط. فالإكراه، كما يعرّفه بعض الأصوليّين، هو حمل الإنسان على ما يكرهه ولا يريد مباشرته لولا الحمل عليه بالوعيد ويعرّفه بعض الفقهاء: بأنّه الإلزام والإجبار على ما يكرهه الإنسان طبعاً أو شرعاً فيقدم عليه مع عدم الرّضا ليدفع عنه ما هو أضرّ به. ومن هذا يتبيّن أنّ الإكراه لا بدّ فيه من التّهديد والوعيد، وأنّ التّصرّف المطلوب يقوم به المكره - بفتح الرّاء - دون رضاه. ولذا كان الإكراه معدماً للرّضا ومفسداً للاختيار أو مبطلاً له، فيبطل التّصرّف، أو يثبت لمن وقع عليه الإكراه حقّ الخيار، على تفصيل موضع بيانه مصطلح «إكراه». 3 - (والتّسخير لغةً): استعمال الشّخص غيره في عمل بالمجّان. ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى. 4 - والضّغط لغةً: الضّيق والشّدّة والإكراه. وأمّا في الاستعمال الفقهيّ فقد قال البرزليّ: سئل ابن أبي زيد عن المضغوط ما هو ؟ فقال: هو من أضغط في بيع ربعه أو شيء بعينه، أو في مال يؤخذ منه ظلماً فباع لذلك. وقيل: إنّ المضغوط هو من أكره على دفع المال ظلماً فباع لذلك فقط. بينما الإجبار أعمّ من كلّ ذلك. إذ قد يكون حراماً غير مشروع فيتضمّن الإكراه والتّسخير والضّغط، وقد يكون الإجبار مشروعاً بل مطلوباً، كما لا يشترط لتحقّقه التّهديد والوعيد، ولا أن يكون التّصرّف بفعل الشّخص المجبر - بفتح الباء - وإنّما قد يكون أيضاً بفعل المجبر - بكسر الباء - أو قوله، كما في تزويج الوليّ المجبر من له عليه ولاية إجبار كالصّغيرة والمجنونة، وكما في نزع الملكيّة جبراً عن المالك للمنافع العامّة. وقد يكون تلقائيّاً دون تلفّظ من أحدهما أو طلب كما في المقاصّة الجبريّة الّتي يقول بها جمهور الفقهاء غير المالكيّة كما أنّ الإجبار المشروع لا يؤثّر على صحّة التّصرّف، ولا يشترط فيه أن يكون تسخيراً بغير مقابل وإنّما العوض فيه قائم، كما أنّ الإجبار لا يقتصر وقوعه على البيع فقط كما في الضّغط، بل صوره كثيرة ومتنوّعة.
5 - الإجبار إمّا أن يكون مشروعاً، كإجبار القاضي المدين المماطل على الوفاء، أو غير مشروع، كإجبار ظالم شخصاً على بيع ملكه من غير مقتض شرعيّ. من له حقّ الإجبار: 6 - قد يكون الإجبار من الشّارع دون أن يكون لأحد من الأفراد إرادة فيه كالميراث، وقد يثبت الإجبار من الشّارع لأحد الأفراد على آخر بسبب يخوّل له هذه السّلطة، كالقاضي ووليّ الأمر، منعاً للظّلم ومراعاةً للصّالح العامّ. وسنعرض لكثير من صور هذه الحالات تاركين التّفصيل وبيان آراء المذاهب لمواضعها في مسائل الفقه ومصطلحات الموسوعة.
7 - يثبت الإجبار بحكم الشّرع ويلتزم الأفراد بالتّنفيذ ديانةً وقضاءً كما في أحكام الإرث الّتي هي فريضة من اللّه أوصى بها، ويلتزم كلّ وارث بها جبراً عنه. ويثبت ملك الوارث في تركة مورّثه وإن لم يشأ كلّ منهما. وكذلك ما يفرض من العشور والخراج والجزية والزّكاة فإنّ من منعها بخلاً أو تهاوناً تؤخذ منه جبراً. ومن عجز عن الإنفاق على بهائمه أجبر على بيعها أو إجارتها أو ذبح المأكول منها، فإن أبى فعل الحاكم الأصلح، لأنّ من ملك حيواناً وجبت عليه مؤنته. ويرد الجبر أيضاً في الإنفاق على الزّوجة والوالدين والأولاد والأقارب على تفصيل وخلاف يذكر في موضعه. كما قالوا: إنّ الأمّ تجبر على إرضاع ولده وحضانته إن تعيّنت لذلك واقتضته مصلحة الصّغير، كما يجبر الأب على أجر الحضانة والرّضاعة. وليس له إجبارها على الرّضاع إذا لم تتعيّن، أو الفطام من غير حاجة، واستظهر ابن عابدين أنّ له أن يجبرها على الفطام بعد حولين. كما أنّ المضطرّ قد يجبر بحكم الشّرع على أن تناول طعاماً أو شراباً محظوراً ليزيل به غصّةً أو يدفع مخمصةً كي لا يلقي بنفسه في التّهلكة. ففي هذه الصّور مصدر الإجبار فيها: الشّرع مباشرةً، وما وليّ الأمر إلاّ منفّذ فيما يحتاج إلى تدخّله دون أن يكون له خيار.
8 - قد يكون الإجبار حقّاً لوليّ الأمر بتخويل من الشّارع دفعاً لظلم أو تحقيقاً لمصلحة عامّة. ومن ذلك ما قالوه من جبر المدين المماطل على دفع ما عليه من دين للغير ولو بالضّرب مرّةً بعد أخرى والسّجن، وإلاّ باع عليه القاضي جبراً. كما قال جمهور الفقهاء خلافاً للإمام أبي حنيفة الّذي رأى جبره بالضّرب والحبس حتّى يقضي دينه دون بيع ماله جبراً عنه. وتفصيله في الحجر. كما قالوا: إذا امتنع أرباب الحرف الضّروريّة للنّاس، ولم يوجد غيرهم، أجبرهم وليّ الأمر استحساناً.
9 - كما أنّ لوليّ الأمر أيضاً أن يجبر صاحب الماء على بيع ما يفيض عن حاجته لمن به عطش أو فقد مورد مائه كما أثبتوا للغير حقّ الشّفة في مياه القنوات الخاصّة والعيون الخاصّة، ومن حقّ النّاس أن يطالبوا مالك المجرى أو النّبع أن يخرج لهم الماء ليستوفوا حقّهم منه أو يمكّنهم من الوصول إليه لذلك وإلاّ أجبره الحاكم إذا تعيّن هذا الماء لدفع حاجتهم. ذكر الكاسانيّ: أنّ قوماً وردوا ماءً فسألوه أهله فمنعوهم فذكروا ذلك لعمر بن الخطّاب وقالوا: إنّ أعناقنا وأعناق مطايانا كادت تتقطّع من العطش، فقال لهم عمر: هلاّ وضعتم فيهم السّلاح ؟
10 - ولمّا كان الاحتكار محظوراً لما رواه مسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من احتكر فهو خاطئ»، فإنّ فقهاء المذاهب قالوا بأنّ وليّ الأمر يأمر المحتكرين بالبيع بسعر وقته فإن لم يفعلوا أجبروا على ذلك عند ضرورة النّاس إليه، غير أنّ ابن جزيّ ذكر أنّ في الجبر خلافاً. ونقل الكاسانيّ عن الحنفيّة خلافاً أيضاً، لكن نقل المرغينانيّ وغيره قولاً اتّفاقيّاً في المذهب - هو الصّحيح - أنّ الإمام يبيع على المحتكر جبراً عنه إذا لم يستجب لأمره بالبيع. كما نصّ الفقهاء على أنّ السّلطان إذا أراد تولية أحد أحصى ما بيده فما وجده بعد ذلك زائداً على ما كان عنده، وما كان يرزق به من بيت مال المسلمين وإنّما أخذه بجاه الولاية، أخذه منه جبراً. وقد فعل ذلك عمر رضي الله عنه مع عمّاله لمّا أشكل عليه ما اكتسبوه في مدّة القضاء والإمارة، فقد شاطر أبا هريرة وأبا موسى مع علوّ مراتبهما.
11 - ويدخل في الإجبار من قبل وليّ الأمر منع عمر كبار الصّحابة من تزوّج الكتابيّات، فقد منعهم وقال: أنا لا أحرّمه ولكنّي أخشى الإعراض عن الزّواج بالمسلمات، وفرّق بين كلّ من طلحة وحذيفة وزوجتيهما الكتابيّتين.
12 - خوّل الشّارع بعض الأفراد في حالات خاصّة سلطة إجبار الغير، كما في الشّفعة فقد أثبت الشّارع للشّفيع حقّ تملّك العقار المبيع بما قام على المشتري من ثمن ومؤنة جبراً عنه. وهو حقّ اختياريّ للشّفيع.
13 - كما خوّل الشّارع للمطلّق طلاقاً رجعيّاً حقّ مراجعة مطلّقته ولو جبراً عنها ما دامت في العدّة، إذ الرّجعة لا تفتقر إلى وليّ ولا صداق ولا رضا المرأة. وهذا الحقّ ثبت للرّجل من الشّارع في مدّة العدّة دون نصّ عليه عند التّعاقد أو اشتراطه عند الطّلاق، حتّى إنّه لا يملك إسقاط حقّه فيه، على ما بيّنه الفقهاء عند الكلام عن الرّجعة. كما أعطى الشّارع الأب ومن في حكمه كوكيله ووصيّه حقّ ولاية الإجبار في النّكاح على خلاف وتفصيل يرجع إليه في موطنه عند الكلام عن الولاية في النّكاح.
14 - وفي إجبار الأمّ على الحضانة إذا لم تتعيّن لها تفصيل بين الفقهاء فمن رأى أنّ الحضانة حقّ للحاضنة قال: إنّها لا تجبر عليها إذا ما أسقطت حقّها لأنّ صاحب الحقّ لا يجبر على استيفاء حقّه. ومن قال: إنّها حقّ للمحضون نفسه قال: إنّ للقاضي أن يجبر الحاضنة، على ما هو مبيّن تفصيلاً عند كلام الفقهاء عن الحضانة. ومن هذا ما قالوه من أنّ المفوّضة - وهي الّتي عقد نكاحها من غير أن يبيّن لها مهر - لو طالبت قبل الدّخول بأن يفرض لها مهر أجبر على ذلك. قال ابن قدامة: وبهذا قال الشّافعيّ، ولا نعلم فيه مخالفاً
15 - وقال غير الحنفيّة - وهو قول زفر من الحنفيّة - إنّ للزّوج إجبار زوجته على الغسل من الحيض والنّفاس مسلمةً كانت أو ذمّيّةً، حرّةً كانت أو مملوكةً لأنّه يمنع الاستمتاع الّذي هو حقّ له، فملك إجبارها على إزالة ما يمنع حقّه وله إجبار زوجته المسلمة البالغة على الغسل من الجنابة، وأمّا الذّمّيّة ففي رواية عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة له إجبارها. وفي الرّواية الثّانية عندهما ليس له إجبارها لأنّ الاستمتاع لا يتوقّف عليه وهو قول مالك والثّوريّ. 16 - كما قالوا بالنّسبة للأعيان المشتركة إذا كانت من جنس واحد وطلب أحد الشّريكين القسمة. فقد نصّ الحنفيّة على أنّ القاضي يجبر عليها، لأنّ القسمة لا تخلو عن معنى المبادلة ؛ والمبادلة ممّا يجري فيه الجبر كما في قضاء الدّين، فإنّ المدين يجبر على القضاء مع أنّ الدّيون تقضي بأمثالها فصار ما يؤدّي بدلاً عمّا في ذمّته. وهذا جبر في المبادلة قصداً وقد جاز، فلأن يجوز بلا قصد إليه أولى. وإن كانت الأعيان المشتركة من أجناس مختلفة كالإبل والبقر والغنم لا يجبر القاضي الممتنع - على قسمتها لتعذّر المبادلة، ولو تراضوا عليها جاز. وتفصيل ذلك في الشّركة والقسمة.
17 - وينصّ الشّافعيّة على أنّ ما لا ضرر في قسمته كالبستان والدّار الكبيرة والدّكّان الواسعة، والمكيل والموزون من جنس واحد، ونحوها إذا طلب الشّريك قسمته أجبر الآخر عليها. والضّرر المانع من قسمة الإجبار نقص قيمة المقسوم بها، وقيل: عدم النّفع به مقسوماً. وإن تضرّر أحد الشّريكين وحده وطلب المتضرّر القسمة أجبر الآخر، وإلاّ فلا إجبار. وقيل: أيّهما طلب لم يجبر الآخر. وتفصيل ذلك في القسمة والشّركة.
18 - كما نصّ الفقهاء فيمن له حقّ السّفل مع من له حقّ العلو أنّه لا يجبر ذو السّفل على البناء، لأنّ حقّ ذي العلو فائت إذ حقّه قرار العلو على السّفل القائم. ويقول ابن قدامة: إذا كان السّفل لرجل والعلو لآخر فانهدم السّقف الّذي بينهما فطلب أحدهما المباناة من الآخر فامتنع فعلى روايتين كالحائط بين البيتين. وللشّافعيّ قولان كالرّوايتين. وإن انهدمت حيطان السّفل فطالبه صاحب العلو بإعادتها فعلى روايتين: يجبر، وهو قول مالك وأبي ثور وأحد قولي الشّافعيّ، وعلى هذه الرّواية يجبر على البناء وحده لأنّه ملكه خاصّةً. والرّواية الثّانية: لا يجبر وهو قول أبي حنيفة، وإن أراد صاحب العلو بناءه لم يمنعه من ذلك على الرّوايتين. وإن طالب صاحب السّفل بالبناء وأبى صاحب العلو ففيه روايتان: الأولى: لا يجبر على بنائه ولا مساعدته وهو قول الشّافعيّ، والثّانية: يجبر على مساعدته لأنّه حائط يشتركان في الانتفاع به. وتفصيله في حقّ التّعلّي ضمن حقوق الارتفاق.
19 - وقالوا في الحائط المشترك لو انهدم وعرصته عريضة فطلب أحدهما بناءه يجبر الآخر على الصّحيح في مذاهب الأئمّة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة، لأنّ في ترك بنائه إضراراً فيجبر عليه كما يجبر على القسمة إذا طلبها أحدهما وعلى النّقض إذا خيف سقوطه. وغير الصّحيح في المذاهب أنّه لا يجبر لأنّه ملك لا حرمة له في نفسه فلم يجبر مالكه على الإنفاق عليه كما لو انفرد به، ولأنّه بناء حائط فلم يجبر عليه كالابتداء. ونصّ الحنفيّة أيضاً على أنّه إذا كان مكان الحائط المشترك يحتمل القسمة ويتمكّن كلّ واحد من بناء سدّ في نصيبه لم يجبر، وإلاّ أجبر.
1 - الاجتهاد في اللّغة بذل الوسع والطّاقة في طلب أمر ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته. ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ. أمّا الأصوليّون فمن أدقّ ما عرّفوه به أنّه بذل الطّاقة من الفقيه في تحصيل حكم شرعيّ ظنّيّ، فلا اجتهاد فيما علم من الدّين بالضّرورة، كوجوب الصّلوات، وكونها خمساً. ومن هذا يعلم أنّ معرفة الحكم الشّرعيّ من دليله القطعيّ لا تسمّى اجتهاداً.
القياس 2 - الّذي عليه الأصوليّون أنّ الاجتهاد أعمّ من القياس. فالاجتهاد يكون في أمر ليس فيه نصّ، بإثبات الحكم له، لوجود علّة الأصل فيه، وهذا هو القياس. ويكون الاجتهاد أيضاً في إثبات النّصوص بمعرفة درجاتها من حيث القبول والرّدّ، وبمعرفة دلالات تلك النّصوص، ومعرفة الأحكام من أدلّتها الأخرى غير القياس، من قول صحابيّ، أو عمل أهل المدينة، أو الاستصحاب، أو الاستصلاح أو غيرها، عند من يقول بها.
التّحرّي: 3 - هو لغةً الطّلب والابتغاء، وشرعاً طلب شيء من العبادات بغالب الرّأي. عند تعذّر الوقوف على الحقيقة. وإنّما قيّد بالعبادات لأنّهم كما قالوا (التّحرّي) فيها، قالوا (التّوخّي) في المعاملات. والتّحرّي غير الشّكّ والظّنّ، فإنّ الشّكّ أن يستوي طرفا العلم والجهل، والظّنّ ترجّح أحدهما من دليل، والتّحرّي ترجّح أحدهما بغالب الرّأي. وهو دليل يتوصّل به إلى طرف العلم، وإن كان لا يتوصّل به إلى ما يوجب حقيقة العلم. كذا قال السّرخسيّ في المبسوط. وفيه أيضاً: الاجتهاد مدرك من مدارك الأحكام الشّرعيّة، وإن كان الشّرع لا يثبت به ابتداءً، وكذلك التّحرّي مدرك من مدارك التّوصّل إلى أداء العبادات، وإن كانت العبادة لا تثبت به ابتداءً. الاستنباط: 4 - وهو استخراج العلّة أو الحكم إذا لم يكونا منصوصين، بنوع من الاجتهاد.
5 - اشترط الأصوليّون في المجتهد أن يكون مسلماً صحيح الفهم عالماً بمصادر الأحكام، من كتاب وسنّة وإجماع وقياس، وبالنّاسخ منها والمنسوخ، عالماً باللّغة العربيّة نحوها وصرفها وبلاغتها، عالماً بأصول الفقه. والمراد بمعرفة الكتاب معرفة آيات الأحكام، وليس المراد حفظها بل معرفة مواقعها بحيث يستطيع الوصول إليها بيسر وسهولة، ويستطيع معرفة معانيها كذلك. والمراد بمعرفة السّنّة معرفة ما ورد من الأحاديث في الأحكام، وليس المراد حفظها، وإنّما يكفي أن يكون لديه أصل جامع لغالبيّة أحاديث الأحكام يستطيع أن يتعرّف فيه بيسر وسهولة، مواقع كلّ باب منها ليرجع إليه عند الحاجة، ولا بدّ أن يعرف المقبول منها من المردود. واشترطت معرفته بالنّاسخ والمنسوخ، لئلاّ يفتي بما هو منسوخ. واشترطت معرفته بالعربيّة لكي يتمكّن من فهم القرآن والسّنّة على وجههما الصّحيح، لأنّهما وردا بلسان العرب، وجريا على أساليب كلامهم. واشترطت معرفته بأصول الفقه لكي لا يخرج في استنباطه للأحكام، وفي التّرجيح عند التّعارض، عن القواعد الصّحيحة لذلك. وهذه الشّروط إنّما هي للمجتهد المطلق المتصدّي للاجتهاد في جميع مسائل الفقه.
6 - الاجتهاد قد يكون مطلقاً كاجتهاد الأئمّة الأربعة وقد يكون غير مطلق وفي درجاته تفصيل موطنه الملحق الأصوليّ.
7 - الاجتهاد فرض كفاية إذ لا بدّ للمسلمين من استخراج الأحكام لما يحدث من الأمور. ويتعيّن الإجهاد على من هو أهله إن سئل عن حادثة وقعت فعلاً، ولم يكن غيره، وضاق الوقت بحيث يخاف من وقعت به فواتها، إن لم يجتهد من هو أهل لتحصيل الحكم فيها. وقيل: يتعيّن أيضاً إذا وقعت الحادثة بالمجتهد نفسه وكان لديه الوقت للاجتهاد فيها. وهذا رأي الباقلاّنيّ والآمديّ وأكثر الفقهاء. وقال غيرهم: يجوز له التّقليد مطلقاً، وقال: آخرون يجوز في أحوال معيّنة. وتفصيل ما يتّصل بالاجتهاد موطنه الملحق الأصوليّ.
8 - يذكر الفقهاء نوعاً آخر من الاجتهاد، سوى الاجتهاد في الأدلّة الشّرعيّة، يحتاج إليه المسلم في القيام بالعبادات، عند حصول الاشتباه. فمن ذلك أن يجتهد في تحديد القبلة لأجل استقبالها في صلاته، وذلك عندما لا يجد من يخبره بالجهة، فيستدلّ عليها بأدلّتها المعتبرة شرعاً، كمواقع النّجوم، ومطالع الشّمس والقمر، واتّجاه الرّيح وغير ذلك. ويذكره الفقهاء في مباحث استقبال القبلة في مقدّمات الصّلاة. ومن ذلك الاجتهاد عند اشتباه ثياب طاهرة بثياب نجسة لم يجد غيرها، أو ماء طهور بماء نجس لم يجد غيرهما، ويذكر الفقهاء ذلك في مباحث شرط إزالة النّجاسة في مقدّمات الصّلاة كذلك. ومنه أيضاً اجتهاد من حبس في مكان لا يعرف فيه دخول وقت الصّلاة، أو وقت الصّوم، ويذكر الفقهاء ذلك في مبحث معرفة دخول الشّهر من أبواب الصّوم.
1 - الأجر في اللّغة مصدر أجره يأجره ويأجره إذا أثابه وأعطاه جزاء عمله. ويكون الأجر أيضاً اسماً للعوض المعطى عن العمل. ومنه ما يعطيه اللّه العبد جزاء عمله الصّالح في الدّنيا من مال أو ذكر حسن أو ولد أو غير ذلك، قال اللّه تعالى {وآتيناه أجره في الدّنيا}، وما يعطيه في الآخرة من النّعيم، ومنه قوله تعالى: {والشّهداء عند ربّهم لهم أجرهم ونورهم} وقوله: {وإنّما توفّون أجوركم يوم القيامة}، وكذلك ما يعطيه العباد بعضهم بعضاً من العوض عن أعمالهم يسمّى أجراً، قال اللّه تعالى: {فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ} وسمّى القرآن مهر المرأة أجراً، كما في قوله تعالى: {يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللاّتي آتيت أجورهنّ}. والأجر عند الفقهاء بمعنى العوض عن العمل، سواء أكان من اللّه أم من العباد، مع العلم بأنّ الأجر من اللّه تفضّل منه وبمعنى بدل المنفعة سواء أكانت منفعة عقار كسكنى دار، أو منفعة منقول كركوب سيّارة. ونقل أبو البقاء في الكلّيّات عن بعضهم: «الأجر يقال فيما كان عقداً وما يجري مجرى العقد، ولا يكون إلاّ في النّفع».
2 - يذكر الفقهاء مسائل الأجر على العمل والمنفعة ضمن مباحث الإجارة، والأجرة فليرجع إليها. أجر المثل انظر: إجارة.
1 - الرّجل الأجرد لغةً هو من لا شعر على جسده. والمرأة جرداء. وفي اصطلاح الفقهاء: الأجرد الّذي ليس على وجهه شعر وقد مضى أوان طلوع لحيته، أمّا قبل ذلك فهو أمرد.
2 - أثبت العلماء لمن قارب البلوغ من الفتيان ولم ينبت شعر وجهه - وهو الّذي يسمّى الأمرد - أثبتوا له، إذا كان صبيح الوجه، بعض الأحكام الخاصّة، على اختلاف بينهم فيها، صيانةً له ودرءاً للفتنة به. من ذلك أنّهم رأوا تحريم النّظر إليه بشهوة، والخلوة به، ومسّه، أو كراهة ذلك (ر: أمرد) ثمّ إن لم ينبت شعره بعد أوانه، وهو الّذي يسمّى الأجرد، فقد صرّح بعضهم في مثل ذلك بعدم انطباق أحكام الأمرد عليه، كما نقل ابن عابدين عن بعض من كره إمامة الأمرد أنّه لم يكره الصّلاة خلف من تجاوز حدّ الإنبات ولم ينبت عذاره. ولم نجد لغير الحنفيّة نصّاً في ذلك.
1 - الأجر لغةً وشرعاً: بدل المنفعة، وهي ما يعطاه الأجير في مقابلة العمل، وما يعطاه صاحب العين مقابل الانتفاع بها. وتسمّى الأجرة الأجر والكراء والكروة (بكسر الكاف) وفي القاموس: «النّول جعل السّفينة " وفي اللّسان: «الآجرة والإجارة والإجارة ما أعطيت من أجر " وجمعها أجر، كغرف. ويجوز جمعها على " أجرات " بضمّ الجيم وفتحها.
2 - يجوز أن يكون بدل المنفعة في الإجارة ما جاز أن يكون ثمناً من عرض أو منفعة أخرى أو نقد حالّ أو مؤجّل. وما لا يصلح أن يكون ثمناً قد يصلح أن يكون أجرةً كالمنفعة، ولا يصلح في ذلك الخمر والخنزير ونحوهما إلاّ للذّمّيّين. ويجب أن تكون معلومةً للمتعاقدين بإشارة أو تعيين أو بيان، فلا يصحّ العقد بأجرة مجهولة، ولا يصحّ بأجرة هي جزء من المعمول أو بعض النّاتج من العمل، كمن يستأجر من يسلخ شاةً بجلدها. ويجوز تسعير الأجور في بعض الأحوال. وفي كثير ممّا ذكرناه خلاف وتفصيل يرجع إليه تحت عنوان (إجارة).
3 - يتعرّض الفقهاء لمسائل الأجرة ضمن مباحث الإجارة. ويتعرّضون لأخذ الأجرة على فعل القربات ضمن مباحث الأذان والحجّ والجهاد، ولأخذها على القسمة ضمن مباحث القسمة، ولأخذ الرّهن أو الكفيل بالأجرة ضمن مباحث الرّهن والكفالة، ولتسعيرها ضمن مسائل التّسعير، من البيوع، ولجعل الأجرة منفعةً مماثلةً ضمن مسائل الرّبا، وبعض مباحث الوقف. أجرة المثل انظر: إجارة.
1 - الإجزاء في اللّغة الكفاية والإغناء. وهو شرعاً: إغناء الفعل عن المطلوب ولو من غير زيادة عليه.
الجواز 2 - يفترق الإجزاء عن الجواز بأنّ الإجزاء يكون بأداء المطلوب ولو دون زيادة كما ذكر. أمّا الجواز فإنّه يطلق على ما لا يمتنع شرعاً. الحلّ: كما يفترق الإجزاء عن الحلّ بأنّ الأجزاء قد يكون مع الشّوائب، أمّا الحلّ، فهو الإجزاء الخالص من كلّ شائبة، ولذلك فإنّ الكراهة قد تجامع الإجزاء، ولكنّها لا تجامع الحلّ في بعض الإطلاقات. الحكم الإجماليّ ومواطن البحث: 3 - يكون التّصرّف مجزئاً إذا استجمع شرائطه وأركانه وواجباته أيضاً عند الحنابلة فيجزئ في الوضوء الإتيان بفرائضه دون سننه ومستحبّاته. ويجزئ في الطّهارة بالماء التّطهّر بأحد المياه السّبعة وإن كان الماء الّذي جرى التّطهّر به مملوكاً للغير، عند الجمهور. كما هو مذكور في باب الوضوء من كتب الفقه. ونحو ذلك كثير تجده في أبوابه من كتب الفقه.
نهاية الجزء الأول / الموسوعة الفقهية
|